hossamhasan

شارك على مواقع التواصل

(1)

كان الحلم قويًا وواضحًا لدرجة يصعب معها تمييزه عن الواقع، لا سيما أن الواقع أصبح أغرب من أن يكون واقعًا، وكان الحلم أكثر واقعية من أن يكون حلمًا.
ورغم أن تأثير ذلك الحلم لا يزال باقيًا في عقله وفي داخل نفسه؛ إلا أنه تعجب مما قد قال للحوت بأنه يعجبه ما يفعل هؤلاء الرجال بالسفن وبحارتها، ولا يعلم كيف كان يتفهم الأمر، إذ بدا كل شيء منطقيًا وعقلانيًا إلى حدٍ كبير في الحلم.
وبعد مدة من الشرود والتقاط الأنفاس العصبية؛ لاحظ دكرور أخيرًا أن بعض الرجال ما يزالون نائمين، بينما البعض الآخر يحدق فيه في حيرة، فنظر في عين كل منهم قبل أن يتذكر ما كان على وشك أن يفعله بعد أن استيقظ، ضربه قلبه بقوة من داخل صدره كأنه يريد أن يخرج، عندما بدأ يضغط على رقبته حتى سعل، وسعل حتى تألم، وتألم حتى تأوّه.
في البداية تأوّه بصوت مبحوح أخرق جدًا، فجثى على ركبتيه كأنه يدفع الصوت لكي يخرج لكن ما خرج إلا صوت ضعيف يكاد لا يُسمع، فأخذ شهيقًا وأخرجه بآهةٍ واهنة كأنه يتألم، وظل يشهق ويتأوه حتى أصيب بالدوار، ثم وجد سامبار يربّت على ظهره كأنه يساعده، فاستجمع كل قوته وسحب نفسًا حتى انتفخت رئتاه وصرخ حتى كادت العروق في رقبته أن تنفجر، وأيقظ جميع النائمين في المكان، وربما جميع النائمين في البحار.
والرجال صامتون يحدقون فيه في خوف ودهشة؛ نهض دكرور وصرخ فيهم وهو ينحني ويقبض على فخذيه بقوة فردّها عليه بعضهم، فكرر صيحته أعلى فرددوها كلهم وراءه، وانضم إليهم أطلس بأغنية غليظة وعميقة كأنه يحاكي صيحاتهم، وصاحوا جميعًا في نَفَس رجل واحد.
وصرخ...
صرخ حتى خرج قلبه من صدره، صرخ حتى خرج كل الكمد والتعب من جوفه، صرخ حتى أخرج كل ما قد دخل في صدره ولم يخرج منذ عشرين سنة، صرخ حتى بكى، وبكى حتى صرخ.
سكت الجميع احترامًا لحضرة البكاء بينهم، ثم شعر دكرور بشيء يضم خصره، فهدأ قليلًا ليستوعب ما يحدث فوجده القزم أوساي يلف يديه القصيرتان حول خصره، والتف الرجال حولهم تُعانِق أذرُعِهِم أكتافه وأكتاف بعضهم، ففعل دكرور المثل مع أوساي ومع الرجل بجانبه ليجده عمار، فقال بابتسامة طيبة:
- ألم أقل لك ألا توقظني ثانيًا؟
واختلط بكاؤه بشيء من الضحك، ثم قطع أطلس كل ذلك بصافرات مميزة وقصيرة، فصاح بوهاردي بشيء في حماس وبادله رجاله نفس الحماس، ثم قال عمار:
- هيا بنا! سنخرج إلى السطح ثانيًا..
قالها وأراد الذهاب فاستوقفه دكرور ونظر إليه متعجبًا، وتعجب حين كاد أن يقول "ثانيًا!"، لكنها أبَت أن تخرج من فمه، ففكر "يا للسخرية! لقد عاد إليّ صوتي حين نسيت الكلام"، فتنحنح ثم قال:
- هل ستصعدون مرة أخرى؟
وضحك بشدة قبل أن يجيب عمار، فقد كان في صوته بحّة بسيطة وبدا أغلظ مما كان عليه وهو في الثانية عشر من عمره، أو إنه فقط أعجِب بتلك الهزة في حلقه، ثم ردّ عليه عمار وهو يضحك هو الآخر:
- لا تقلق.. ليس هناك سفن ربما نحن بالليل الآن
وبدأ الرجال يخرجون من الشق الطويل الذي كان مفتوحًا بالفعل، دون حرابهم أو أسلحتهم أو أي شيء، فاستغرب دكرور من ذلك لكنه تبعهم على كل حال، وقد تذكر أن يأخذ نفسًا هذه المرة.
★★★

كانت المياه باردة جدًا وساكنة جدًا، والنجوم مثلها ساكنة جدًا وكثيرة جدًا، حتى أنك ترى محاق القمر دائرة سوداء وسط تجمعات لا نهائية من الأنوار، وحولهم أفق أسود من جميع الجهات.
انتظر الحوت حتى خرج كل الرجال، ومدد جسده الهائل على سطح الماء، ونفث نفثته العالية التي تلألأت أكثر بفعل نور النجوم، فبدأ الرجال يرتقون ظهره ويتشبثون بالنتوءات الحجرية والقشور الصدفية على ظهره كأنهم عوالق، ماعدا أوساي فقد تمسك برقبة مافي، ثم أخذ تاندي بيد دكرور ورفعه بجانبه وأشار إلى نتوءين ليتمسك بهما.
واستقر جميع الرجال على ظهر الحوت وبدأ يسبح، فقال أحدهم:
- دكرور...
ولم يفهم دكرور كلمة بعدها، ولما أنهى كلامه قال عمار:
- تشبث جيدًا يا دكرور ولا تفلت!
ثم سمع شهقات الرجال دون أن يسمع زفرات، فعرف دكرور ماذا سيحدث، ففكر "الوغد لم يقل أن آخذ نفسًا"، لكنه فعل على كل حال قبل أن يغوص الحوت في الماء.
غاص قليلًا إلى أسفل ثم عاد يتجه لأعلى بسرعة مخترقًا السطح، فطار جسمه كله خارج الماء ودار في الهواء قبل أن يعود ويرتطم جسده بالماء بعنف، فهتف الرجال بحماس شديد وهم يضحكون ويرفعون قبضاتهم في انتصار، ثم لم يجد دكرور تاندي بجانبه واتضح بعدها أنه وسيجورد قد طارا بعيدًا في الماء.
ثم رجع تاندي وسيجورد، وعاد الحوت يسبح على سطح الماء بسرعة، وهو يقفز قفزات قصيرة من حين لآخر، وسبحت بعض الدلافين بجانبه تتقافز من فوقه، وبدون سابق إنذار غاص ثانيًا بسرعة وعاد يقفز عاليًا.
شعر دكرور بالنشوة والحماس، وشعور كاد قد نسيَه بأن الأمور ستكون على ما يرام، وشعر بشيء غريب تجاه هؤلاء الرجال وهذا الحوت، لا يدري لماذا شعر بالشفقة تجاههم، لا يعلم ألأنهم اختبروا جميع أنواع الموت ولا زالوا يضحكون، أم لأنهم اختبروا جميع أنواع الموت ولا زالوا أحياء.
أبطأ أطلس حركته حتى سكن تمامًا وسكنت المياه حولهم حتى عكست أنوار النجوم، وبقيَ يطفو على الماء كاشفًا ظهره أعلى السطح، وعلى ظهره جلس الرجال منهكين من الإثارة يتسامرون ويضحكون ويغنون ويرقصون بطرق غريبة، ودكرور يجلس يشاهدهم بإعجاب والابتسامة لا تفارق وجهه، فجلس عمار بجانبه وقال بمرح وهو يلتقط أنفاسه:
- لم نفعل ذلك منذ زمن، كنا نفعلها في ليلة كل مرة نصطاد سفينة تحويت، لكن هذه المرة ربما كانت من أجل الترحيب بك
- هل تخرجون كثيرًا؟ أعني... لإسقاط السفن؟
- ‏ليس هناك فترة محددة بين المرة والأخرى، في بعض الأحيان نفعلها حتى نتعب، لن أنسى حين صعدنا ثلاث مرات في ثلاثة أيام متتالية، ولن أنسى أيضًا حين مكثنا بداخل الجوف لا نخرج لقرابة السنة
- ‏سنة!!!
وفجأة طرأ في رأس دكرور شيئًا مهمًا لا يدري كيف نسيَه أصلًا فسأل في استغراب شديد:
- مهلًا! كيف أكون هنا منذ عشرة أيام وأنا لم آكل أو أشرب؟
- هل أنت جائع؟
رفع دكرور أكتافه بلا مبالاة وقد تعجب من أنه بالفعل ليس جائعًا أو ظمآنًا، فأردف عمار:
- نحن لا نجوع أو نظمأ في الجوف، نبقى لشهور من دون أكل ولا نتعب أو نهلك من ذلك، كيف بظنكَ كان سيبقى النبي يونس في بطن الحوت إلى يوم القيامة؟
- من؟!!
تذكر دكرور الإمام الطيب من على السفينة، قبل أن يتذكر قصة النبي الذي دخل بطن حوت وعلم أنه يونس، وتذكر ما قال الإمام بأنه يشبهه؛ بينما كان عمار يرمقه بنظرة خالية حتى سأل:
- أنت تمزح؟!
ثم حين لم يجده يمزح قال بضجر:
- بحقكَ! كيف لا تعرف النبي يونس؟! إنه أول إنسان يدخل بطن حوت
سأل دكرور بدهشة وهو يشير إلى الحوت الذي يجلسون عليه:
- كان هنا؟
- لا طبعًا، لقد كان حوتًا آخر
- هل هناك حيتان أخرى؟!!
- ‏ليس كل الحيتان بالطبع، القليل منهم فقط من لديه تلك القدرة
ولم يتعب دكرور نفسه بأسئلة أخرى، ولا يريد أن يثير عقله بأفكار أخرى، فقط يريد أن يتأمل النجوم والبحر الهادئ.
هدأ الرجال ونظروا إلى أوساي في ترقب، فبدأ يغني أغنية ذات لحن هادئ، بصوته الطيب الذي يبعث النوم إلى العيون والفتور إلى الأجساد والخدر إلى العقول، وظل هكذا حتى ظهر أول خيوط الفجر، وبدأ السواد الذي تسبح فيه النجوم يستحيل إلى الأزرق شيئًا فشيء.
كفّ أوساي عن الغناء فقام الرجال دون كلام، وبدأوا يختفون تحت الماء، ولاحظ دكرور أطلس من خلال الماء يدور حولهم في دائرة ويلتقم كل من يسبح أمامه، ولم يتبقّ إلا هو وموريس، ولما همّ دكرور أن يغوص لاحظ شيئًا يسبح بعيدًا لم يتبينه في تلك المياه السوداء، لكنه حين اقترب أكثر اتضح أنه زعنفة سوداء طويلة.
لفت دكرور انتباه موريس وأشار نحو الزعنفة، فتمتم موريس بكلمات عصبية وهو يلتفت من حوله، ففعل دكرور المثل بحثًا عن أطلس ولم يجده، ولكنه وجد عشرات الزعانف الأخرى تحوم حولهم من جميع الجهات، ثم جذبه موريس إليه بعنف وشبك ذراعه بذراعه، وتلك كانت أول مرة يتمنى دكرور أن يأتي أطلس ويبتلعه.
ثم لم تكن هناك فرصة للتفكير أكثر حين اقتربت الزعنفة كثيرًا وقفز صاحبها فوق الماء واتضح شكله أكثر، كانت سمكة غريبة مرعبة، سمكة هي أكبر من أن تكون سمكة، وبالطبع أصغر من أن تكون حوتًا، سمكة كل جسدها أسود ماعدا عيناها كانت بيضاء شاحبة تنذر بشر، وعلى وجهها ابتسامة دائمة تنم عن أنياب تثير القشعريرة في الجسد.
رأى دكرور في أعينهم البيضاء شرًا يتجه نحوهم مباشرةً عاقدًا على الفتك بهم، فأيقن أنهم هلكى لا محالة وسلّم أمره، ثم لاحظ إحدى تلك الأسماك تقترب كثيرًا وتقفز خارج الماء باتجاههم، وقبل أن ترتطم بهم أظلمت الدنيا فجأة وقد أطبق أطلس بفكيه عليهما، فاضطربت المياه وتقلبوا بداخل الفم العظيم كأنما تضربهم ألف موجة.
وأول ما دخلا الجوف حاول دكرور أن ينادي على عمار لتحذير باقي الرجال مما رأى، لكن موريس وضع يده على فم دكرور بسرعة، ووضع سبابة يده الأخرى على فمه، في تحذير لا يحتاج إلى كلام ليوضحه أن لا تتكلم، ثم هرع إلى سامبار الذي يبدو أنه استيقظ لتوّه وأسرّ له بشيء، فعلم دكرور أنه أيضًا رأى الأمر بينما كان نائمًا، وظل أطلس يصدر أصواتًا عادية لمدة قصيرة وبعدها سكت تمامًا.
★★★

(2)
علم أطلس أن هناك خطبًا في المياه بالفعل، ليس فقط شعوره برجاله عندما يكونون في الماء، لكنه كان شيء آخر، فبادر هو بالتقامهم بسرعة ثم رأى شيئًا في الظلام من تحته، فغاص إليه ليجده جثة سمكة قرش تسبح في دمائها، ظل قليلًا يفكر فيما قد يفعل شيء كهذا، إلى أن عاد ينظر إلى السطح ويجد عشرات الحيتان القاتلة تسبح في حلقة حول إثنين من رجاله، فسبح إليهم بسرعة غير عادية فاتحًا فمه فأطبقه عليهم قبل أن يدركهم أحد تلك الحيتان.
يسمي البشر تلك الحيتان "أوركا" أو "الحيتان القاتلة"، وذلك لسبب وجيه، فبغض النظر عن شكلها المرعب المميز، أو سلوكها العدائي تجاه أي شيء؛ إلا أن ما يجعلها تستحق ذلك الاسم هو أنها رغم صغر حجمها فهي لا تتورع من قتل الحيتان الأكبر منها حجمًا والأعظم منها قوة، لكن بالطبع ليس الحيتان ذوي الأجواف من مثل أطلس، وفي أحيان كثيرة تقتل الحيتان القاتلة ليس للتغذية أو للدفاع عن نفسها؛ بل من أجل القتل فحسب، وذلك ما يجعلها في بعض الأحيان أسوأ من البشر.
ثبت أطلس في مكانه من دون أن يتولى أو يهرب، فأحاطت به مئات من الحيتان القاتلة تسبح من حوله في دائرة طولية كأنه عالق في زجاجة دون أن يجرؤوا على الاقتراب منه، إلى أن جاءه أكبرهم وكبيرهم المسئول عنهم وآمرهم، لطالما كان أطلس يعرفه ويتكلم معه لكنه لا يأمنه أبدًا، فلم يكن يحتكّ به كثيرًا أو بأي من الحيتان القاتلة، وقال ذلك الحوت:
- أراد الصغار أن يلعبوا مع رجالك فحسب
لم يكن يتحدث سوى بتلك النبرة التي لم يعلم أطلس كيف يسميها حينها، لكنها بالتأكيد كانت تهكّم، ثم رَد:
- أهذا حقًا؟
- نعم، فقط أخرِجهم وسيحظون بوقت ممتع
- لقد عادوا لتوّهم
- صِرتَ تحميهم كأنهم صغارك، صرتَ لهم كسفينة بإمكانها أن تغوص في الأعماق
- إن لم آكلهم فلمَ لا أحميهم
- نعم.. أخبرني مجدّدًا ماذا يسمّوننا
- يسمّونكم أوركا
- كم أعشق تسميتهم للأشياء وهذا الاسم بالذات، أتدري.. أكاد أجزم بأني لدي جوف مثلك وبإمكاني الاحتفاظ بالبشر في داخله، لكني أفترسهم بين أسناني قبل أن يدخلوا بطني
- لذلك يسمونكم القتلة أيضًا.. أنصحك بعدم الاقتراب من سفنهم حتى لا يكونون هم من يفترسك
- لا يجرؤ البشر على الاقتراب مني
- هذا فقط لأنهم لا يحتاجون منكَ شيء
- لا شك أنهم كانوا يحتاجون من عائلتك الكثير...
وأضاف بتهكم أكبر:
- معذرةً كدت أنسى أنهم قُتِلوا جميعًا
- إنهم لم يُقتَلوا
- أما زلتَ تعتقد ذلك؟
- نعم، لقد شعرتُ بأحدهم ورأيت آخَر بعينه
- من دون أن تعلم أين هم؟ هذا غريب أتدري ربما سأساعدك في البحث
- ولمَ تهتم؟
- وكيف لا أهتم بصديقي؟
قالها الأوركا ثم بدأت الحيتان القاتلة تتفرق من حولهما، ثم أردف أخيرًا:
- لمَ لا تذهب شمالًا إلى بحر الجليد؟ هناك حوت ذو جوف يعيش وحده هناك، ربما تجده يعلم شيئًا
وقال وهو يبتعد:
- سأرسل إليك أحد الصغار إذا وجدتُ شيئًا.. ربما
لم يمانع أطلس العمل بنصيحته، فحدد وجهته وظل يسبح باتجاه الشمال بالقرب من السطح دون أن يصادف شيئًا أو يعطله شيء، وبعد أيام عديدة وصل إلى الشمال حيث البحار المتجمدة، والتي في ظاهرها موحشة وهادئة، لكنها في أعماقها ومن تحت كتل الجليد اليابسة؛ كانت ملجأً لكل كائن يحب الاختباء.
ظل هائمًا في تلك البحار لأيام من دون أن يجد شيء أو يجده شيء، إلى أن شعر بشيء آخر في المحيط جعله يترك ذلك المكان ويغيّر وجهته، وإذ لم يكن الصداع المعتاد فقد علم على الفور أنه أحد رجاله، لكن من غير أن يعرف مَن، فحرص على ألا يزور رجاله في أحلامهم حتى يتأكد من الأمر.
★★★

مرت أيام دون أن يُسمع صوت من الحوت أطلس، والنور بالكاد يخفت أو يشتد، فبدأ دكرور يشك أنه مات وأنهم عالقون هنا، وموريس وسامبار يحاولون إخفاء قلقهم الذي لا يعلم أحد عنه شيء سواه.
وبين الحين والآخر يرمقه موريس بنظرات خالية ربما ليتأكد من سكوته، وهو لا يجيد ولا يريد أن يستفسر منه عما يجري، إذ إنه لا يزال لا يفهم لغتهم بعد، كما أن موريس ذلك يثير فيه شعور لا يجيد وصفه، ليس كره أو خوف أو رهبة، إنه فقط شعور يجعله لا يريد النظر إليه أو الاقتراب منه.
كل مرة يخلد دكرور إلى النوم يتوقع أن يرى الحوت كأنه في انتظاره في عالم الأحلام، لكنه لا يكون هناك، في بعض الأحيان يجد نفسه على السفينة بصحبة النائمين، وفي أحيان أخرى يحلم بالحوت يأكله ويهشمه بين أسنانه، أو يحلم بأنه يغرق، أو بأنه يصاب بحربة في ظهره وهو يسبح مبتعدًا عن السفينة، وأشياء أخرى من ذاكرته قبل أن يغرق ويدخل الجوف، وكلها أشياء يتمنى أن ينساها.
وفي أحيان أخرى كثيرة لا يكون هناك أي شيء، فقط نوم، نوم طويل صافي لا ينقطع ولا تشوبه أحلام، وكل مرة يستيقظ يتيقن أكثر أنه قد جرى للحوت شيئًا أو ربما قد مات، فينتابه شعور بالوحشة والخوف، ليس من فكرة موته، بل من فكرة أنه يجب عليه المكوث بداخل جوف حوت ميّت إلى أجل غير مسمى.
حياة غريبة جدًا تلك التي من دون طعام أو شراب، ومن دون الحاجة المُلِحَّة المتكررة لفعل شيء بعينه، في أول أيامه حاولَت معدته بكل الطرق أن تقنعه أنه جائع وأنه يجب إطعامها، وحاولَ دكرور أن يخبرها أنه ليس جوع الطعام بل هو جوع العادة، فشيء يفعله أكثر من مرة في اليوم كل يوم على مدار ستة وعشرين سنة؛ شيء كهذا لا تختفي عادته بسهولة، وبعد أيام يئسَت معدته وسكتت، وبدأت تألَف النسيان، وبدأ هو ينساها شيئًا فشيء.
ورغم أنه لا يوجد وسيلة لمعرفة الوقت وهم لا يخرجون، إلا أن دكرور شعر أنه يمر سريعًا، ليس فقط لأن الزمن يسير بشكل غريب كما أخبره عمار، لكن أيضًا لأن الرجال ينامون أكثر الوقت، وفي الوقت الذي يصحون فيه يلهون بكل ما أمكنهم من وسائل لهو، لديهم ألعاب طاولة وأربع طاولات شطرنج، كان دكرور يعرفها من قبل، وكان بارعًا فيها.
كما أن لديهم آلات موسيقى، فسامبار يعزف على ناي ببراعة، ويعزف سيجورد على كمنجة، ومع صوت أوساي الملائكي؛ يصنع ثلاثتهم جوقة غاية في الروعة، كما أن هناك الكثير من الكتب لمن منهم يجيد القراء.
وبالطبع هناك مصارعات إلا أنها غريبة هنا بعض الشيء، فهي فرقتين على الأكثر، فرقة على الأرض والتي تقابلها أعلاها على السقف، وكل فرقة تتكون من إثنين يركب أحدهما على كتف الآخر ويصارع الرجل المقابل له في الفرقة الأخرى، حتى يسقطه على أرضه، وأول مرة يشارك دكرور في هذه اللعبة أصيب بالغثيان وانسحب من أولها حين رأى سيجورد وجهًا لوجه لكن بالمقلوب.
وجزء كبير من الوقت كانوا يمضونه في التدريب على القتال بالسيف والحربة، لكن لقتل رجل وليس لقتل حوت كما ينبغي لها أن تُستخدَم، ويتدربون على استعمال البنادق والمسدسات، وكيفية تنظيفها من الماء وإعادة تلقيمها، دون أن يجربوها داخل الجوف بالطبع، لكن الأسلحة النارية غالبًا ما كانت تفسد بعدما تبتل بمياه البحر، فلم يعتمدوا عليها غالبًا.
لكن دكرور أمضى أكثر وقته مع عمار يعلمه الإنجليزية، فكل رجل معه لغتين يُعلِّم إحداهما لمن معه لغة واحدة ويشاركه إياها، وحيث أن أكثرهم كان يتحدث الإنجليزية أو على الأقل يعرف القليل منها؛ فقد كانت لغتهم في معظم الوقت.
ومن كثرة الممارسة وطول الاستذكار، ولأن عمار لا يكف عن الكلام وحكي الحكايات؛ تعلم دكرور تلك اللغة بسرعة، وبدأ يتفاعل مع باقي الرجال ويعرف كل واحد منهم، لكنه احتاج أن يسأل عمار عمّن مات منهم أو لم يعد موجودًا معهم:
- وكم منكم قد مات من قبل؟
- ‏لقد شهدت زيمان وبيدرو، وقبلهما كان هناك دوراي ولويس، هذان ماتا قبل أن آتي إلى هنا
- ‏ماذا عن ويليام و...
- وأوين، كانوا ويليام وأوين...
زفر عمار بيأس وأردف:
- ذهبا منذ قرابة الشهر إلى بريطانيا لاستطلاع اليابسة، يجلبان أخبار الحروب والناس وأخبار صيد الحيتان وما إلى ذلك
- هل تفعلون ذلك عادةً؟
- ‏ليس عادةً، لكن فعلناه أكثر من مرة، أذكر في أول سنة لي أن موريس وأوين قد ذهبا وعادا بعد أسبوع، ومنذ زمن كان بوهاردي ورالف يذهبان مع سامبار للبحث عن علاج لمرضه لكن دون جدوى
قال دكرور في شرود كأنه يتساءل:
- ‏وجميكم تعودون...
- ‏نعم، وأين سنذهب على كل حال؟، أصبح هذا منزلنا الذي لا نريد أن نبتعد عنه، فكنا نعود بعد يومين أو أسبوع على الأكثر، لكن أوين وويليام قد طالت غيبتهم، حتى أننا بدأنا نعتقد أنهما قد هربا
- ماذا عن هنري؟ أعني كيف هرب؟
- قلتُ لك أنه لم يهرب لقد مات أثناء المحاولة.. كانت طريقته مثيرة للإعجاب رغم ذلك، فقد دفع بجثة أحد القتلى بداخل الجوف، فعَدَدْناها رالف أو تاندي فهما كثيرًا ما يعودا فاقدا الوعي، ثم لم نتبين تلك الجثة إلا بعد أن دخلنا جميعًا وأغلق الجوف...
قال دكرور بانفعال:
- أهي تلك الجثة التي كانت بجانبي حين استيقظت هنا أول مرة؟
- بالفعل، المهم.. ثم علمنا بعدها من بوهاردي أن أطلس قتله، فهو من كان نائمًا حينها
- هل هو الوحيد الذي حاول الهرب؟
- إن لم نحتسب أوين وويليام... إذًا هنري هو الوحيد الذي حاول الهرب
★★★

رغم أن كل ذلك كان مثيرًا جدًا لاهتمام دكرور، لكن كان بوهاردي أكثر من يشغل تفكيره بينهم، ربما بسبب تصرفاته الغريبة أو مزاجه المتقلب، أو لون عينيه الغريب، واسمه الغريب الذي لا يليق على شكله، أو لأنه أول من جاء هنا، فقد علم دكرور أن بوهاردي قد مكث وحده لثلاث سنوات قبل أن ينضم إليه رالف، فسأل دكرور عمار في إحدى المرات:
- من أين هو بوهاردي؟
- ‏إنه إفريقي، من أحد القبائل أو شيء كهذا
- ‏إفريقي؟! مثل مافي وتاندي مثلًا؟
- ‏وسامبار.. نعم
- ‏إذًا لمَ لا يبدو مثلهم؟ أعني أنه لا يبدو كإفريقي
بدا عمار متردّدًا وهو يجيب:
- أممم! ليس كل الأفارقة سود، أنا وأنت أفارقة أيضًا
لم يفهم دكرور ولم يقنع بالإجابة، فسأل شيئًا آخر كان يشغل تفكيره منذ أن بدأ يفكر مليًا في كل شيء:
- لقد قلتَ أن بوهاردي قد غرق منذ مائة وعشرين سنة...
- ‏تقريبًا
- ‏وأن عمره مائة وثمانون سنة...
- ‏تقريبًا
- ‏هذا يعني أنه كان في الستين من عمره حين غرق
- ‏...
- ‏لماذا إذًا يبدو لي في الثلاثين؟... تقريبًا
قال عمار بدهشة:
- اللعنة! لم أكن أعلم أن لديك عقلًا بداخل رأسك.. من أين أتيت بهذا الذكاء؟!
ثم زفر بسأم وقال بامتعاض أكثر:
- اللعنة! لا أعلم كيف أخبرك.. لا أعلم حتى إن كان من المفترض أن أخبركَ
- لا عليكَ يا عمار، دكرور أحدنا.. وعاجلًا أو آجلًا لابد وأن يعرف
قال ذلك بوهاردي الذي كان يجلس على مقربة منهم بعد أن ترك كتابًا كان يقرأ فيه، وهو ينظر إليهم بعينه الصفراء التي تلمع في الظلام مثل القطط، ثم قام وسار إليهم وربّت على كتف عمار وجلس بجانبه، وجلس ثلاثتهم في صمت لمدة قبل أن يقول بوهاردي:
- لا أعلم أي جنون قد سمعته أو رأيته حتى الآن، لكن ما ستسمعه الآن شيء آخر...
ثم بدأ الضوء يشتد في الجوف عندما بدأت عروق النور تتسع، ويظهر السائل الأصفر الذي يجري بداخلها ببطء وينبض بوهن، وأحد تلك الشقوق كان بجانب بوهاردي، فوضع فيه سُلامة خنصره ثم أخرجه ملطخًا يضيء بذلك السائل كالشعلة، ورفعه أمام عينه وحدّق فيه حتى تماهى لون عينيه مع النور الأصفر، وقال في استغراق وهو على هذا الحال:
- كان أطلس يحكي لنا عن أشياء غريبة يفعلها بشر آخرون يسكنون حيتانًا أخرى بهذا السائل الأصفر، لم نفهمها ولم نلقِ لها بالًا، وحتى الآن لا زلنا غير متأكدين من حقيقة ذلك النور السائل، فقط حذّرنا أطلس من شربه لأنه يقتل من يشربه، وكنا نعتقد أنه ما يعطينا ذلك العمر الطويل وذلك الشباب الذي لا ينتهي، وأنه ما يشفي ما بنا من عِلل، لكن اتضح أن الجوف نفسه هو السبب في كل ذلك...
وأضاف:
- على كل حال.. أخبرنا أطلس عن أن هناك رجالًا يسكنون حوتًا آخر قد استعملوا ذلك السائل في نقل الروح من جسد معطوب إلى جسد سليم.. من جسد لا يصلح للعيش إلى جسد معافى، فيجب على صاحب الجسد المعافى أن يضحي ويقتل نفسه بأن يشرب ذلك السائل، ويجب على صاحب الجسد الفاسد أن تكون روحه لا تزال فيه قبل أن تخرج منه إلى الجسد الآخر السليم، هل فهمت؟
كان دكرور يستوعب كل ما يقال لكن لا يعيه، إذ كان بالفعل جنونًا من نوع آخر، كما لم يقدر على تكذيبه بأي شكل، فبعد كل ما رأى واختبر أصبح كل شيء سهل التصديق مهما كان، كما أنه يعلم أن ذلك ليس كل ما في الأمر فأجاب بغمغمة، بعد أن لاحظ انضمام بعض الرجال إليهم دون أن يشعر بهم، ثم مسح بوهاردي إصبعه في ردائه وقال:
- فكرنا أن نفعلها مع سامبار وأحد البحارة من على أي سفينة، لكننا كنا غير متأكدين، بعدها نسينا الأمر كله، ولم نذكره إلا عندما مات زيمان وأردنا أن نفعل شيئًا، لكن لم يكن هناك ما نفعله، إلى أن حدث ما حدث منذ سنتين...
وسكت فجأة دون أن يقاطعه أحد ثم عاد يقول بتردّد:
- لقد فعلناها منذ سنتين.. حين أُصِبتُ في مرة صعدنا فيها لاصطياد سفينة، كان القتال شديدًا، وكاد بيدرو أن يُقتل، لكنني دافعت عنه فأصبتُ أنا، إصاباتي كانت بالغة والجروح كانت لتقتل أي أحد على الفور، لكني كنت على قيد الحياة حين رجعتُ إلى الجوف، وإذ كانت جراحي تقتلني أسرع من أن يشفيها الجوف، فقد بقِيَ جسدي دون أن تخرج منه روحي كأنه نائمًا، وهكذا لم أمت ولم أبقَ على قيد الحياة...
سكت بوهاردي ثانيًا وبدا أكثر ترددًا وحزنًا حين أكمل:
- حتى ضَحّى بيدرو بنفسه من أجلي وأهداني جسده السليم..
ثم نظر إلى رالف وأردف:
- لا تخبرني أنه فعلها لأنني ضحّيت بنفسي من أجله أولًا، رغم أنني ولجت إلى أفكاره ومشاعره وذكرياته وحتى لغته، رغم أنني أصبحت هو بطريقة ما؛ إلا أني حتى الآن لا زلت لا أدري لمَ فعلها...
وأصبح بوهاردي أكثر تأثرًا وحزنًا، وفاضت دمعة صفراء من عينه، وسمع دكرور بكاء بعض الرجال دون أن يتبين أيهم، وأردف بوهاردي:
- ثم استيقظتُ لأجد نفسي ممددًا على جانبي أحتضن أحدًا بين ذراعي، ثم أدركت أني أحتضن نفسي، ورأيتني أمامي كأني أنظر إلى مرآة، رأيتُني مغمضًا عيني وسكينًا يخترق صدري
أنهى بوهاردي كلامه ومسح عينيه وقد عاد إليه اتزانه، ثم نهض وقال باقتضاب:
- حسنًا أعتقد أن هذا كل ما في الأمر
وترك الجميع وابتعد إلى ركن لينام، ثم عاد دكرور إلى عمار ليجد وجهه مبتلًا بالدموع هو الآخر وقال:
- ألم تقل أن بيدرو هذا قد قتل على إحدى السفن؟
- ‏أنا لم أقل ذلك قطّ
عاد دكرور يسأل غير عابئًا بحالة عمار أو بالجو المشحون بالمشاعر:
- إذًا هذا جسد بيدرو؟ إذًا بيدرو هو الأعمى وليس بوهاردي.. صحيح؟
لم يتلقَّ إجابة سوى الصمت فعدّها نعم، وسأل أخيرًا:
- وكيف فعلها على كل حال؟
لكن سامبار هو من أجابه:
- أصِبنا جميعًا بالهلع عندما عرفنا أنه لا يزال على قيد الحياة، وبينما كنا نتشاجر فيما سنفعل أو إن كان أحدنا سيفعلها أو ما إذا كنا سنفعلها أصلًا؛ كان بيدرو قد شرب النور السائل فتحولت عيناه إلى الأصفر، قبل أن يرقد بجانب جسد بوهاردي النائم، لم نكن ندري ماذا يفعل، وحتى بعد أن أدركنا ماذا يفعل لم ندرِ ماذا نفعل، ثم أحتضن جسد بوهاردي وأخرج سكينه وغرسه في صميم قلبه، أعتقد حينها أن روح بوهاردي قد خرجت ودخلت جسد بيدرو في نفس الوقت الذي خرجت روح بيدرو من جسده
★★★

(4)
ظل جميع الرجال هادئين وواجمين لفترة بعد حديث بوهاردي وقَلّ لعبهم وزاد نومهم، وقَلّ كلام دكرور مع عمار وإن لم ينقطع، ولا يزال لا صوت، أو أي أثر للحوت في المنام، وبالكاد يخفت النور، والغريب في كل ذلك أنه لا يبدو على أي أحد أنه يلاحظ أي من ذلك، وموريس وسامبار بالذات يزدادون وجومًا وقلقًا مع كل يوم يمر، لكنهم يجيدون إخفاء ذلك.
وفي يوم وجد دكرور موريس يجلس في وقار وهدوء كعادته، فقرر أن يتكلم معه حول ما يحيك في صدره من أمر السمكة المخيفة، وما حدث لأطلس، فاستفسر من عمار عن بعض الكلمات الإنجليزية وبعض قواعدها، مدعيًا الاستذكار والاجتهاد في التعلم، بعدها جهّز الكلمات في ذهنه ورتبها وراجعها عدة مرات، ثم سار ناحية موريس بهدوء، وما أن نظر إليه؛ حتى نسى الإنجليزية والعربية وفقد النطق ثانيًا.
لم يكن موريس مخيفًا كما يبدو، كما أن دكرور رآه يمزح مع البقية ويمازحونه، لكن يوجد شيء ما في عينه الرمادية الشاحبة يثير المغص في المعدة، وكما لم يكن يتوقع؛ ابتسم موريس وأومأ برأسه قائلًا:
- سيد دكرور! صحيح ما اسمك الأخير؟
- أنا لا أعرف اسمي الثاني حتى أعرف الأخير
- أنا أقصد... أه لا يهم، كيف حالك؟
- بخير.. أعتقد
- تبدو مرتاحًا هنا، أخبرني ألا تريد أن تخرج وتعود إلى وطنك؟
- بالطبع، لكن لا أظن أنه يوجد مكان لأخرج إليه على كل حال
زفر موريس ضحكة وقال وهو يومئ بطيبة:
- سيناسبك الجوف كثيرًا
وسكتا بعدها، ومن أجل ألا يتوقف الكلام عند هذا الحد؛ أضاف دكرور:
- عرفت أنك من فرنسا
- ‏نعم! وأنا عرفت أنك من مصر، هل غزَت فرنسا مصر بالفعل؟
- ‏بلا.. كان ذلك قبل أن أولد.. منذ حوالي أربعين سنة، ألم تكن معهم؟ أعني بما أنك كنت جنديًا
- ‏لا لم أكن معهم، لقد غرقت قبلها بأربعين سنة أخرى
- ‏إذًا أنت هنا منذ ثمانين عامًا؟
أومأ موريس بابتسامة راضية، ثم أردف دكرور بدون مواربة أو مقدمات أكثر:
- ما الذي حدث بالأعلى يا موريس؟ ماذا كانت تلك السمكة؟
اختفت ابتسامة موريس شيئًا فشيء، وبدا عليه اليأس والتعب وقال:
- كنتُ أعلم أنك ستقول ذلك.. كانت تلك حيتان قاتلة...
- ‏حيتان!!! لم تبدُ كحيتان، إنها صغيرة جدًا
- ‏لا تقاطعني! ليست كل الحيتان كبيرة، وحتى الكبير منها ليس كبيرًا كأطلس، بالطبع إنها أصغر من أن تكون حيتان لكنها لا تتورع من اصطياد الحيتان الأكبر منها بعشرات المرات
- هل هاجمت... هل مات؟
- ‏لم أرَ أكثر مما رأيتَ يا فتى، لكن لا.. لا أعتقد أنه مات، أطلس ليس كأي حوت آخر
- لكننا لم نسمع صوته منذ أن عدنا، منذ... أسبوعين؟
- ‏ربما أكثر
- ‏منذ مدة طويلة، كما أنني لم أعد أراه في أحلامي
- ‏ليس معنى أنك رأيته مرة أو مرتين أنك ستراه في كل منام، كما أنه في السابق كان يظل صامتًا فترات أطول من تلك
- ‏لماذا إذًا أخفيت الأمر عن الرجال؟
- ‏لماذا بظنك؟.. سيخافون، وحين يخاف الرجال خاصةً في مكانٍ كهذا؛ تسود الفوضى، وصدقني حين أقول أن الفوضى يمكن أن تقتل، تمكن الخوف من سامبار بالفعل وبدأ يفقد السيطرة على نفسه.. بالكاد ينام ويبكي بين يدي كل يوم تقريبًا، تخيل أن يحدث هذا للجميع
وبالحديث عن الفوضى والخوف وفقدان السيطرة؛ تمكن الخوف من دكرور هو الآخر وقال بتوتر:
- لكن ماذا إن كان قد مات؟ هل سنعلق...
لمس موريس القلق في صوته، فقال بطيبة وهو يربّت على كتفه:
- فقط لا تفكر في الأمر هكذا، أعدكَ أنه لم يمت.. انتظر وسترى
- ‏كيف لك أن تتأكد هكذا؟ كيف لك ألا تكون خائفًا؟ أنت حتى لا تبدو قلقًا
- ‏من قال أني لست خائفًا، أنا فقط لا أبدي ذلك، تلك هي الشجاعة، ليست الشجاعة ألا تخاف فذلك يسمى الغباء، لكن الشجاعة ألا تبدي ذلك الخوف.. والآن عِدني أنك ستكون شجاعًا يا دكرور
أعادت كلماته بعض السكينة إلى دكرور، وقد اطمأن له ولحديثه، وكلماته الخفيفة التي تراعي كونه جديدًا على هذه اللغة، وردّ:
- حسنًا أعدك
- جميل!
ظل دكرور صامتًا لبرهة، ثم قال:
- ولم تخبر بوهاردي حتى؟
- بوهاردي ليس صلبًا كما يبدو، حتى قبل... قبل بيدرو
- وأنتَ لستَ صلبًا كما تبدو
قالها دكرور فزفر موريس ضحكة قصيرة ساخرة اهتز جسده من جرائها، وقال:
- وأنت صلبًا كما لا تبدو
ثم أخذ يحكي حين غرق في إحدى المعارك البحرية بين الأسطول الفرنسي والبريطاني، وأنه ذهب إلى فرنسا مع سامبار وبوهاردي، ومرة أخرى إلى أرض مجهولة لم يفهموا لغة سكانها، وحكى عن شواطئ غريبة لم تطأها قدم بشر، وأماكن عجيبة أخذهم أطلس إليها كانت السماء فيها تتلون بالأخضر، وحكى أنهم قديمًا كانوا ينقذون الحيتان التي تعلق على الشواطئ، وأنهم قابلوا أحد الحيتان وتبادلوا الأحاديث مع الرجال في جوفه، وأنهم كانوا يتسللون إلى السفن ويسرقون منها، وتتطور الأمر إلى أن صاروا يغرقونها، وتتطور الأمر إلى أنهم أصبحوا يقتلون من عليها.
وكان دكرور يستمع إليه في اهتمام وإثارة، وفكر أنه كان عليه أن يكلمه فقط لكي يعلم أنه أطيب مما يبدو، إذ لم تبدُ عليه هذه الألفة والوداعة حتى كلمه، ربما حياته التي أمضاها يقاتل جنودًا آخرين وصيادين الحيتان؛ هي ما أورثته تلك الملامح الصلبة، لكن ما وراء تلك الملامح كان شخصًا آخر.
★★★

قرر دكرور أن يقضى وقته يسأل الرجال السؤال الذي لطالما شغل تفكيره، والذي لا يعرف حتى كيف يسأله لنفسه، ألا وهو: كيف يرضى أحد البقاء هنا؟، أو كيف يتحمل أحد العيش كل هذه المدة؟، وما الذي يدفع أحد للقتل من أجل حوت؟، جميعها صيغ لسؤال إجابته واحدة لا يعرفها، ربما كان هنري الوحيد من حاول الهرب هو من لديه الإجابة.
وسأل عمار أول من سأل بعد أن استيقظ أخيرًا، إذ إنه أكثرهم نومًا وكسلًا، فذهب إليه وهو مستلقيًا فجلس حين جلس بجانبه، وقال مازحًا:
- كيف ينام المرء كل هذا؟! ظنناك مت..
- وأنا أيضًا
- وما الذي يمنع؟.. أن تموت
نظر إليه عمار بتعجب كأنه أول مرة يراه وقال:
- أعتقد أن الحياة كافية لأن تمنعك من الموت
علَّق دكرور:
- لكن أليس هذا كثيرًا على أن يكون حياة، أعني المكوث هنا كل هذه المدة، وتعريض نفسك للقتل كل بضعة أيام، ومن أجل ماذا.. حوت؟
- حوت! أتسمي أطلس حوتًا؟ إنه أكثر إنسانية من كثير من البشر
- إنسانية!!
- ألم يُرِكَ كيف يتم اصطياد الحيتان؟ أنا لم أرَه ولا أحتاج لأن أفعل، لكن حكايات الرجال تشيب لها الرأس.. ما أريد أن أخبرك هو أن البشر قد تمادوا كثيرًا، ولابد من إيقافهم
- أهذا ما تفعله.. تحميه؟
- رغم أنه قادر تمامًا على حماية نفسه إلا أنه لا يفعل، أنا أشعر بالشفقة عليه، وعلى كل الأسماك في المحيطات حتى الحيتان، لم يسلم ذلك الكائن المهيب من مكر البشر.. لا سيما أطلس
ثم أضاف كأنه يكلم نفسه:
- ‏أنا أحميه.. نعم! ولمَ لا؟! ليس لأنه أنقذ حياتي فحسب إنني فقط... أحبه، كما أنني أكره الحوّاتين، ولا أستوعب فكرة أنهم يحاولون النيل منه كل يوم، أو أنهم سينجحون في يوم ما
سكت دكرور مبهوتًا من هذا الكلام، لا يستوعب علاقة الحب تلك، وفكر أن موريس كان محقًا، إذ إن بعض الرجال سينهارون حين يعلمون أن من الممكن أن يكون حوتهم العزيز قد مات، ليس لأنهم ربما سيعلقون هنا للأبد كما اعتقد دكرور، ولكن فكرة موته نفسها.
اقترب أوساي يتأبط لوح شطرنج تحت ذراعه، ودون كلام وضعه أمام عمار وقاموا برَصّ القطع، وبدأوا مباراتهم صامتين.
وفي محاولة لكسر ذلك الصمت باغت دكرور أوساي بسؤال جعله يتوقف عن تحريك قطعته، حيث سأله:
- لماذا لم تهرب حتى الآن يا أوساي؟
سكت أوساي برهة يفكر في السؤال، ثم أجاب بصوته الصغير المرح:
- ربما لأن قدماي أصغر من قضيبي!!
وانفجر أوساي وعمار في الضحك، ثم انضم إليهم دكرور بعدما استوعب معنى كلمة معينة لم يكن يفهمها، وعاد أوساي وعمار إلى لعبتهما، فسأل دكرور ثانيًا بطريقة حاول أن تكون أكثر وضوحًا:
- أعني كيف تتحمل العيش في بطن حوت، وكل هذا القتل، وكل هذه المدة؟
ردّ أوساي من دون أن يرفع نظره عن لوح الشطرنج، يفكر في حركته:
- أنا أحب أطلس، وعلى أتم الاستعداد أن أقضي بقية حياتي في جوفه...
- لكنك في سجن!!
- أهذا حقًا؟! وأين كنتُ قبل أن أدخل هذا السجن؟ يعتمد السجن في كونه سجنًا على حالك قبل أن تدخله، وبالنسبة لحال جميعنا قبل أن نأتي إلى هنا فهذا السجن هو النعيم ذاته
ثم نظر في عين دكرور وإلى المكان من حوله وأردف:
- أترى كم هو وحيد في هذا المحيط الكبير؟ كما أنه يتعرض للقتل من مجرد تنفسه للهواء، حتى أنهم قد قتلوا كل الحيتان الرمادية من فصيلته، إنه يحتاج إلينا كي نواسيه، ليس فقط كي نحميه، لماذا بظنكَ يخرجنا من جوفه ويأخذنا في رحلات على ظهره ويسمح لنا باللعب، على الرغم من أننا هنا للعقاب؟
ثم قال عمار:
- هل أخبرتكَ عن الحيتان الأخرى ذوي الأجواف؟
أجاب دكرور:
- ليس الكثير...
- أخبرنا أطلس عن أن هناك حيتانًا أخرى تكتفي بواحد فقط داخل جوفها، لا تخرجه إلا بعد أن يتوب مما قد فعل، فلربما يمكث ذلك التعِس لآلاف السنين وحده في جوف حوت
قال أوساي قبل أن يتكلم دكرور:
- أخرجنا أطلس منذ زمن لمقابلة أحد الحيتان الطيبة بل وتسامرنا مع الرجال في جوفه، كان صديقه أو ما شابه
ثم سأل دكرور:
- لكن لم يتُب أي منكم من قبل؟
تساءل أوساي بتهكم:
- بعد كل ما فعلنا؟
- أه فعلًا! أنا حتى لا أعلم إن كانت لي توبة
- حتى وإن كان هناك من سبيل للتوبة فلا أريد أن أسلكه
وابتلع دكرور الكلام على مضض وسكت، ولم يحتَج لسؤال باقي الرجال عن سبب تقبلهم لمثل هذه الحياة، إذ إنه يعتقد أن إجاباتهم ستكون واحدة أو متقاربة، هو لا ينكر أنه معجب بأطلس حقًا، فهو حوت فريد بل هو كائن فريد، لكنه ليس متأكدًا إن كان يهيم في عشقه مثل هؤلاء الرجال.
وجلس يشاهد مباراة أوساي وعمار المحتدمة، حتى جاء سيجورد هو الآخر يحمل لوح شطرنج آخر، فوضعه أمام دكرور وجلس أمامه، وابتسم إليه ابتسامة مخيفة وقال على سبيل التحية:
- دكرور!! كيف تريد أن تخسر؟
- أه! تريد أن تشعل حربًا
قال عمار متوجهًا لسيجورد:
- احذر من هذا النرويجي يا دكرور! فهو ليس غبيًا كما يبدو
وسيجورد لا يشيح ببصره عن دكرور، بعينيه السوداء ووجهه الأبيض، وشعره الأحمر، وابتسامته الصفراء، ثم قاما برَصّ القطع، وبدآ مباراتهما، بعدها انضم بوهاردي ورالف إلى جانب دكرور وسيجورد بلوح شطرنج آخر، وتبعهم سامبار ومافي، وقد اشتعلت حرب بالفعل.
انتظر دييجو وتاندي انتهاء أي مباراة، وموريس يجلس على مقربة يشاهد بمرح وقد امتنع عن اللعب، وانتهت مباراة عمار وأوساي بفوز أوساي الذي ملأ المكان بصيحاته ويتوعد بأن يهتك عرض من سيلاعبه لاحقًا، ولما طالت المباراة بين دكرور وسيجورد قال سيجورد متأففًا:
- آه! ربما لن تنتهي هذه المباراة قبل أن أرحل من هذا الجوف
فسأل دكرور:
- ومتى سترحل من هذا الجوف يا سيجورد؟
- كلامك هذا يذكّرني بأحدهم!.. ربما لن أرحل أبدًا
- لكن ألا تحب أطلس؟ ألا تريد العيش في جوفه ما بقيَ من حياتك؟ أو للأبد؟
قالها دكرور في تعجب ساخر، فزفر سيجورد ما بدا كضحكة وقال:
- حسنًا ولمَ لا!.. طالما معي هؤلاء الحمقى، لكنني هنا منذ واحد وعشرين سنة، وتبدو كأنها الأبد بالفعل
قال آخر كلمة وألقاها إلى بوهاردي الجالس بجانب دكرور، فردّ بوهاردي مازحًا بأسف مبتذل:
- آه سيجورد المسكين! هل مللتَ بالفعل؟ لا تقلق.. فالمائة عام داخل الجوف تمر في لمح البصر.. صدقني! أنا هنا منذ مائة وأربعة وعشرين عامًا، ويبدو الأمر كأنه أول البارحة، هل تراني أتذمر؟ هه!
ضحك سيجورد وحدج بوهاردي بنظراته الباردة، حتى أكمل بوهاردي إلى دكرور بنبرة آمرة:
- وأنتَ لا أريد أن أسمع منكَ مثل ذلك الكلام، نحن كلنا هنا معًا ومع أطلس.. فإن كنتَ ستبقى معنا فلا أريد أن أسمعك تتذمر بشأن الخروج، وإن كنت تريد الخروج والظفر بحريتك فلن يمنعك أحد
فرَد دكرور:
- مثل ويليام وأوين؟.. أم مثل هنري؟
قالها فأصبح سكوت الرجال أوضح، حتى قطع هذا السكوت صوت بكاء.
★★★

التفت الجميع نحو مصدر البكاء ليجدوه سامبار، يبكي ويضع يديه على رأسه ويتحرك للأمام وللخلف ويتمتم بكلمات غير مفهومة، وما أن وضع رالف يده على كتف سامبار حتى قال الأخير بصوت واضح:
- جميعكم هلكى!
قال موريس في نبرة تحذيرية:
- سامبار!!
ردّ سامبار وقد علا صوته أكثر:
- لا.. لا يمكنني فعلها بعد الآن، يمكنني البقاء داخل الجوف لألف عام.. لكن ليس... ليس وهو ميت...
وعاد سامبار لبكائه بهدوء، حتى سأل رالف:
- سامبار! اهدأ.. ما الذي تهذي به؟
نظر سامبار إلى موريس فقال وكلامه يختلط ببكائه:
- آسف يا موريس.. لم يعد بإمكاني الاستمرار هكذا...
عاد سامبار إلى الرجال وقال بعد أن تمالك نفسه قليلًا:
- لقد هاجمت الحيتان القاتلة أطلس في آخر مرة خرجتم فيها.. بعد أن عدتم مباشرةً
وبدأ سيجورد يضحك، ثم سأل بوهاردي بعصبية:
- كم حوتًا هاجمه؟
أجابه دكرور:
- عشرات!
نظر الجميع إلى دكرور، فسأله بوهاردي في ذهول:
- هل كنتَ تعلم؟!! هل كنتَ تعلم؟!!
قال الثانية لموريس فلم يجِبه أيضًا، فنهض دكرور وصاح بعصبية:
- نعم كان يعلم!! وآثر عدم إخباركم حتى لا يثير الفوضى والهلع.. والآن يجب أن نهدأ حتى نجد مخرجًا من هنا
وعَلَت ضحكات سيجورد، ثم نهض مافي وقال لدكرور معنفًا:
- ليس معنى ذلك أنه مات أيها الأحمق!
رد عليه دييجو وقد قام هو الآخر:
- لم نسمع صوته منذ آخر مرة صعدنا.. منذ أن عاد إلى دكرور صوته
وأضاف عليهم سامبار:
- ولم يسمع أحد صوته في منامه.. صحيح؟
أجاب دكرور:
- نعم كل هذا صحيح.. والآن نريد أن نعرف كيف نخرج من هنا...
- اللعنة! لا.. لا يمكنني... لا يمكنني التنفس...
قال ذلك عمار وبدأ يسعل ويتنفس بصعوبة حتى سقط على ركبتيه، فذهب إليه دكرور يساعده وقد انشغل عن باقي الرجال، وعلا ضحك سيجورد أكثر، ثم سقط أوساي مغشيًا عليه، فهرع إليه مافي يحمله كالرضيع بين ذراعيه الضخمين يحاول إيقاظه.
وبدأ الرجال يقومون ويصيحون في بعضهم بعصبية وهلع، وموريس جالس في ثبات، فأمسك بوهاردي بتلابيبه وأجبره على القيام وصاح فيه:
- هل كنت تعلم؟ أخبرني! هل كنت تعلم؟
ردّ موريس ببرود:
- هل كنت تريد أن يحدث هذا في وقت مبكر أكثر؟
وأخذ رالف يحاول أن يفصل بينهما.
ثم نهض سيجورد وهو ما زال يضحك، وأخذ حربته وتوجه بهدوء ناحية شق الباب المغلق، وسرعان ما انضم إليه تاندي، وأخذا يضربان الحائط في مكان باب، ويضعان حرابهم في الشق الطويل يريدون فتحه عنوة.
وأثناء كل ذلك كان دكرور يربت على ظهر عمار لتهدئته، نظر حوله إلى الرجال والهرج الحاصل، وحدّث نفسه أن كل هذا يثبت صحة كلام موريس بالفعل، لكن لم يكن هناك مفر من أن يحدث كل هذا وينكشف سره، "حسنًا حان وقت الخروج من هنا"، فكر دكرور في ذلك قبل أن يترك عمار عاجزًا عن التنفس، وهمَّ لينضم إلى سيجورد وتاندي، فوجدهما قد توقفا عما يفعلان وينظر كلاهما إلى رجل آخر أصلع تمامًا لا يعرفه.
حينها اهتز المكان لما رفع أطلس صوته، حاسمًا الجدل في أمر موته بصافرة عالية غليظة طويلة لم يسمع مثلها من قبل، ولما سكت أطلس بعد مدة صاح دييجو وهو يمسك بذراعي الرجل الأصلع الغريب:
- بوهاردي.. إنه أوين!
تقدم أوين بضع خطوات، وقال بابتسامة سعيدة وهو يلهث:
- إنه أنا يا رفاق!...
ثم اعتلى التعجب وجهه ما أن ألقى نظرة في المكان، فأردف وهو لا يزال يلهث:
- ماذا يحدث هنا؟!!
★★★

جاء دكرور وجلس بجانبي قبل أن أنتهي من قراءة الفصل الرابع، يقرأ كتابًا هو الآخر، وقلت بعد أن انتهيت:
- يبدو أن أطلس حوتًا طيبًا
أومأ دكرور بامتنان وابتسم بطيبة دون أن يتكلم وعاد يقرأ كتابه، وعدت أسأل:
- إذًا أنت من تتحدث عنه تلك القصة.. صحيح؟
- نعم... مهلًا!!! ماذا تقصد؟!!
تساءل بعصبية وتعجب شديدين لا يليقان ببساطة السؤال، فقلت:
- لم أقصد شيء! كنت فقط أريد أن أعلم ماذا فعلتَ قبل أن تغرق
وبدا عليه الارتياح وهو يجيب:
- أه حسنًا! أممم.. ليس من المفترض أن أخبرك، تلك هي القواعد التي لا تزال قائمة حتى الآن
في ضوء النهار ونحن جالسين بهدوء كانت فرصة لأراه عن قرب، لاحظت ندوبًا تخرج من تحت رداءه ولا يبدو أنها كانت جروحًا هينة، ويتخلل لحيته خطًا فاتحًا خاليًا من الشعر يخرج منها إلى وجنته، لكن أكثر شيء ملفت للانتباه كان ندبة بعرض رقبته كالسلسلة كأنه قد شُنِق من قبل أو ربما ذُبِح، ومع كل ذلك فلا يزال يعلو محياه طيبة ووداعة.
ثم قررت أن أتظاهر أني لم أرَ شيئًا، فماضي ذلك الدكرور ربما يكون أسوأ من الدكرور الآخر الذي عاش في بطن الحوت، وعدت أقول:
- وهؤلاء الرجال أيضًا يبدون طيبين حقًا
- هل تتهكم؟
- بالطبع أتهكم، إنهم مجرمون، أعني إن كانوا حقيقيين
ضحك دكرور وقال:
- بالطبع هم مجرمون، لكن ما يميزهم عن المجرمين أنهم يعرفون ذلك
- ذلك لا يجعلهم صالحين، أو حتى أبطال في رواية
- من قال أنهم صالحون أو أبطال؟! أتدري؟!.. منذ مئتين عام كان الناس ليدعونهم بالقتلة، والآن ربما هم أبطال.. إنه كما ترى مع مرور الزمن يزداد كره البشر للبشر.. ويزداد حبهم للحيتان، الآن لم يعد البشر يكرهون من الكائنات سوى أنفسهم
وأضاف:
- ومنذ... لا أدري ربما سبعين عامًا تقريبًا بدأوا يتذكرون أن الحيتان كائنات طيبة ومهددة بالانقراض بسبب البشر الأشرار، وذلك حين لم يعودوا في حاجة لزيوتها
- ألذلك أصبحتَ تأخذهم في رحلات بدلًا من قتلهم
- من قال أني... إنه فقط ليس هناك من سبب لقتل هؤلاء السياح البلهاء
تركت دكرور مع كتابه وأفكاره الغريبة، وعدت إلى سام وطلبت منه كلمة مرور شبكة الإنترنت والتي كانت "أطلس1854"، فابتسمت بسخرية وفكرت كم أنهم مهووسون بذلك الاسم، ومكثت لبقية اليوم أتصفح هاتفي الذي لم يتصل بالإنترنت لثلاثة أيام، ولم أكمل القراءة إلا في اليوم التالي...
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.